سورة الأنعام - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)}
قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} {كَمْ} في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله: {أَلَمْ يَرَوْا} لان لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده من أجل أن له صدر الكلام. والمعنى: ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم أي ألم يعرفوا ذلك. والقرن الامة من الناس. والجمع القرون، قال الشاعر:
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم *** وخلفت في قرن فأنت غريب
فالقرن كل عالم في عصره مأخوذ من الاقتران أي عالم مقترن به بعضهم إلى بعض، وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خير الناس قرني- يعني أصحابي- ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» هذا أصح ما قيل فيه.
وقيل: المعنى من أهل قرن فحذف كقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. فالقرن على هذا مدة من الزمان، قيل: ستون عاما وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة، واحتجوا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن بسر: «تعيش قرنا» فعاش مائة سنة، ذكره النحاس. واصل القرن الشيء الطالع كقرن ماله قرن من الحيوان. {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} خروج من الغيبة إلى الخطاب، عكسه {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22].
وقال أهل البصرة. أخبر عنهم بقوله: {أَلَمْ يَرَوْا} وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه، ثم خاطبهم معهم، والعرب تقول: قلت لعبد الله ما أكرمه: وقلت لعبد الله ما أكرمك، ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال: ما لم نمكن لهم. ويجوز مكنه ومكن له، فجاء باللغتين جميعا، أي أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا. {وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً} يريد المطر الكثير، عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزل، ومنه قول الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ***
و{مِدْراراً} بناء دال على التكثير، كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، ومئناث للمرأة التي تلد الإناث، يقال: در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصب {مِدْراراً} على الحال. {وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} أي من تحت أشجارهم ومنازلهم، ومنه قول فرعون: {وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] والمعنى: وسعنا عليهم النعم فكفروها. {فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي بكفرهم فالذنوب سبب الانتقام وزوال النعم. {وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} أي أوجدنا، فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا.


{وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}
قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ} الآية. المعنى: ولو نزلنا يا محمد بمرأى منهم كما زعموا وطلبوا كلاما مكتوبا {فِي قِرْطاسٍ}. وعن ابن عباس: كتابا معلقا بين السماء والأرض وهذا يبين لك أن التنزيل على وجهين، أحدهما- على معنى نزل عليك الكتاب بمعنى نزول الملك به. والآخر- ولو نزلنا كتابا في قرطاس يمسكه الله بين السماء والأرض، وقال: {نَزَّلْنا} على المبالغة بطول مكث الكتاب بين السماء والأرض والكتاب مصدر بمعنى الكتابة فبين أن الكتابة في قرطاس، لأنه غير معقول كتابة إلا في قرطاس أي في صحيفة والقرطاس الصحيفة، ويقال: قرطاس بالضم، وقرطس فلان إذا رمى فأصاب الصحيفة الملزقة بالهدف. {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} أي فعاينوا ذلك ومسوه باليد كما اقترحوا وبالغوا في ميزه وتقليبه جسا بأيديهم ليرتفع كل ارتياب ويزول عنهم كله إشكال، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم، وقالوا: سحر مبين إنما سكرت أبصارنا وسحرنا، وهذه الآية جواب لقولهم: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ} [الاسراء: 93] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذبوا به. قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الاسراء: 90] الآية.


{وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)}
قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} اقترحوا هذا أيضا. و{ذَلُولًا} بمعنى هلا. {وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ} قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته. مجاهد وعكرمة: لقامت الساعة. قال الحسن وقتادة: لاهلكوا بعذاب الاستئصال، لان الله أجرى سنته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن أهلكه الله في الحال. أي {لا يُنْظَرُونَ} أي لا يمهلون ولا يؤخرون. قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا} أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة، لان كله جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم. وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي. أي لو أنزل ملك لرأوه في صورة رجل كما جرت عادة الأنبياء، ولو نزل على عادته لم يروه، فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم فكانوا يقولون: هذا ساحر مثلك.
وقال الزجاج: المعنى {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ} أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم وكانوا يقولون لهم: إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم، فأعلمهم الله عز وجل أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون. واللبس الخلط، يقال: لبست عليه الامر ألبسه لبسا أي خلطته، وأصله التستر بالثوب ونحوه وقال: {لَلَبَسْنا} بالإضافة إلى نفسه على جهة الخلق، وقال: {ما يَلْبِسُونَ} فأضاف إليهم على جهة الاكتساب. ثم قال مؤنسا لنبيه عليه الصلاة والسلام ومعزيا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ} أي نزل بأممهم من العذاب ما أهلكوا به جزاء استهزائهم بأنبيائهم. حاق بالشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل، قال الله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] و{ما} في قوله: {بِما كانُوا} بمعنى الذي وقيل: بمعنى المصدر أي حاق بهم عاقبة استهزائهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8